تحل اليوم الذكرى ال48 لاختطاف المعارض اليساري المغربي المهدي بنبركة بالعاصمة الفرنسية باريس يوم 29 أكتوبر 1965 ، وقد قيل وكتب وسال مداد كثير طيلة نصف قرن من الزمن عن كيفية اغتيال المعارض الأول للملك الراحل الحسن الثاني وعن مكان دفنه.
لتظل عائلته تطالب بمعرفة حقيقة مصير جثمانه وعن مكان دفنه، وتحديد المسؤوليات السياسية والجنائية عن اختطافه. فيما لا تزال السلطات المغربية والفرنسية تتحفظ على أسرار هذا الملف مخافة الكشف عن أسراره التي يعتقد محامو أسرة بنبركة أنها تدين رؤوسا كبيرة في الرباط وباريس.
هذا، ولم تستطع هيئة الإنصاف والمصالحة التي شكلها العاهل المغربي الملك محمد السادس سنة 2004 أن تحل هذا اللغز واكتفت بإحالته مجددا على المجلس الوطني لحقوق الإنسان.
وولد المهدي بن بركة في يناير من عام 1920 في العاصمة الرباط للمغرب. اختفى في 29 أكتوبر 1965 في "فونتني لو فيكونت" شمال فرنسا. كان من السياسيين المغاربة، وأكبر معارض اشتراكي للملك الراحل الحسن الثاني وزعيم حركة العالم الثالث والوحدة الأفريقية...
في 11 يناير 1944 قدم مع آخرين إلى الملك محمد الخامس ما عرف فيما بعد بوثيقة الاستقلال وهي وثيقة تاريخية تطالب باستقلال المغرب قدمها مجموعة من مثقفي المغرب وكان أصغر الموقعين عليها آنذاك وكان عمره 24 عام، اعتقل عاما على اثر تقديمه تلك الوثيقة.
1945 صار رئيساً لحزب الاستقلال المغربي الحزب الأكبر في المغرب والذي قاد الحركة النضالية من اجل الاستقلال في المغرب..
قاد الحزب ليصدر الجريدة التي ستصير جريدة الاستقلال الأولى في المغرب وهي جريدة "العلم".
1948 سافر إلى باريس لتقديم تقرير عن أوضاع حقوق الإنسان بالمغرب إلى الجمعية العمومية للأمم المتحدة المنعقدة بقصر شايو بالعاصمة الفرنسية وكان من جدول أعمالها إعداد تصريح حول حقوق الإنسان.
فبراير1951 أمر المقيم العام الجنرال جوان باعتقال المهدي بن بركة باعتباره من أخطر أعداء الحماية الفرنسية بالمغرب. وظل رهن الإقامة الجبرية ثم أدخل إلى سجن الدار البيضاء.
أكتوبر 1954 أطلق سراحه حيث شرع في إعادة تنظيم حزب الاستقلال على أساس تمثين العلاقات مع قيادة النقابة وحركة المقاومة المسلحة التي أصبحت واقعا سياسيا بمجرد خلع الملك في غشت 1953.
1955 كان عضوا في وفد حزب الاستقلال المشارك في مشاورات إيكس ليبان.
نونبر 1955 أشرف على إعداد المليشيا الشعبية التي ضمنت الأمن وسهرت على النظام في هذه الحقبة التي عاد فيها المغفور له محمد الخامس مظفرا إلى شعبه.
16 نونبر 1956 انتخب رئيسا للمجلس الوطني الاستشاري. و كان المحرك الأساسي للقوى الحية المنظمة في مغرب السنوات الأولى للاستقلال.
صيف 1957 أشرف على مشروع بناء طريق الوحدة بمشاركة إثنى عشر ألفا من المتطوعين الشباب.
يوم 25 يناير 1959 قدم استقالته من اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال ليكون حرا يشارك بفعالية في التحولات السياسية التي تمخض عنها ظهور حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية كقوة سياسية تهدف إلى استمرار روح المقاومة الوطنية في ضمير الجماهير وقواها الحية.
أبريل 1959 انتهت مهام المجلس الوطني الاستشاري ولن تجري الانتخابات البرلمانية إلا في ماي 1963 وهكذا ستبقى الحياة النيابية منعدمة في المغرب.
6 شتنبر 1959 انعقد المؤتمر التأسيسي للاتحاد الوطني للقوات الشعبية بالدار البيضاء الذي سيصير(الإتحاد الوطني للقوات الشعبية لا زال موجودا. الإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية انفصل عنه فقظ) بعد 15 سنة (15 شتنبر 1974) الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
أكتوبر 1959 قام بجولة إلى الصين والهند ومصر ولبنان وفرنسا وإسبانيا.
ظهر الجمعة 16 نونبر 1962 تعرض لمحاولة اغتيال قرب بوزنيقة ونظرا للجروح الخطيرة التي أصابته في ثلاث فقرات عنقية فقد اضطر للسفر إلى ألمانيا وتم استبعاده هكذا من معركة مقاطعة استفتاء 7 دجنبر 1962.
17 ماي 1963 فاز بمقعد بالبرلمان نيابة عن دائرة يعقوب المنصور الحي الشعبي الكبير بالعاصمة المغربية، وأظهر مقدرة عالية في قيادة الحملة الانتخابية التي عرفها المغرب بمناسبة إجراء أول اقتراع عام بعد مرور أكثر من سبع سنوات على الاعتراف بالاستقلال.
يوم 15 يونيو 1963 بعد شهر تأكد للجميع أن الممارسة الديمقراطية السليمة تواجه آفاق مظلمة نظرا للمواقع الخطيرة التي يحتلها خصوم الديمقراطية في أجهزة المملكة، ولهذا قرر المهدي بن بركة مغادرة المغرب.
يوليوز 1963 صدر حكم غيابي بالإعدام في حقه بعد اتهامه بالمشاركة فيما سمي ب "مؤامرة و محاولة اغتيال الملك" وهو في الخارج.
صيف 1963 توالت مبادرات المهدي بن بركة في اتجاه تطويق التناقضات بين العواصم العربية التي تحكمها أنظمة تقدمية.
صيف 1963 كان مشغولا بمشروعين:
العودة إلى أرض الوطن على أساس وعود بإجراء انفتاح ديمقراطي. إعداد مؤتمر القارات الثلاث بمدينة هافانا في يناير 1966. بالإضافة إلى مهامه الوطنية كانت له عدة مبادرات على صعيد تقوية التضامن ما بين حركات التحرر بالقارات الثلاث.
29 أكتوبر 1965 على الساعة 12 و 30 د تعرض للمهدي بن بركة بالحي اللاتيني بالعاصمة الفرنسية شرطيان فرنسيان قادوه لفيلا بضواحي باريس متسببين انه سيلتقي شخصية مهمة يومين بعد ذلك أعلن أخو بن بركة عن اختفاءه لدى الشرطة الفرنسية التي أنكرت آنذاك ضلوعها في القضية.
حسب المعلومات المتوفره في 2006 تمت متابعته من طرف "الموساد" الإسرائيلي و"سي آي آيه" اللتان كانتا تخبران كل من الرباط وباريس. تعتبر قضيته رمز الحقبة المظلمة تحت حكم الملك الحسن الثاني، ولطالما جمدت العلاقات الثنائية بين فرنسا والمغرب.
يثير تمسك الأطراف المعنية بقضية المهدي بن بركة، مؤسس اليسار المغربي الحديث، بإخفاء حقيقة اختطافه واغتياله، الكثير من الاستغراب لدى المراقبين.
|
من هذا المكان جانب مقهى ليب بباريس الفرنسية اختطف الشهيد المهدي بنبركة سنة 1965
|
في صباح 29 أكتوبر 1965، كان المهدي بن بركة على موعد مع مخرج سينمائي فرنسي أمام مطعم ليب في شارع سان جيرمان في قلب العاصمة الفرنسية، لإعداد فيلم حول حركات التحرر، وكان هذا المخرج مشاركاً في سيناريو الاختطاف. تقدم رجلا شرطة فرنسيين من بن بركة وطلبا منه مرافقتهما في سيارة تابعة للشرطة.
وبعد ذلك وحتى الآن اختفى اثر بن بركة ورسمياً لم يعرف إلا ما أدلى به الشرطيان أمام محكمة، حيث اعترفا أنهما خطفا بن بركة بالاتفاق مع المخابرات المغربية وأنهما أخذاه إلى فيلا تقع في ضواحي باريس حيث شاهدا الجنرال محمد اوفقير وزير الداخلية المغربية آنذاك ومعه أحمد الدليمي مدير المخابرات المغربية وآخرون من رجاله وأن بن بركة توفي أثناء التحقيق معه وتعذيبه.
هذه الرواية متفق عليها من الأطراف المشاركة بالجريمة أو عائلة بن بركة ورفاقه، لكن ما بعد ذلك لا زالت الروايات متعددة متباينة، ولحد الآن رغم مرور أربعين عاما لا يعرف مصير جثمان بن بركة وأين دفن. وكل الروايات المتداولة قابلة للتصديق وكلها لا تحمل ما يؤكدها.
ذكر مشاركون في الجريمة أن الجثمان دفن على نهر السين بالقرب من الفيلا التي كان محتجزا بها. أحمد البخاري العميل السابق للمخابرات المغربية قال سنة 2001 أن الجثمان نقل بعد الاغتيال إلى الرباط على متن طائرة عسكرية مغربية وتم إذابته في حوض من الأسيد في إحدى المقرات السرية للمخابرات المغربية، وصحف مغربية تحدثت أن الرأس فقط نقل للرباط وقدم على طاولة عشاء في أحد القصور الملكية. وقالت روايات أخرى أن الجثمان كله نقل للرباط ودفن بباحة معتقل سري للمخابرات المغربية يعرف f3.
قانونيا، عائلة بن بركة ورفاقه لا يطالبون بالكثير، يريدون فقط حقيقة مصير جثمانه ومكان دفنها والوثائق الرسمية الفرنسية التي كشفت على مراحل كان آخرها بداية العام الجاري، بعد أكثر من أربعين عاما من وضعها تحت بند أسرار الدفاع وحظر نشرها، لم تتحدث عن مصير الجثمان والسلطات المغربية لا زالت تتحفظ في الحديث عن الملف بمجمله وترفض الخوض فيه، رغم ما عرفه ملف حقوق الإنسان وما يعرف بمسلسل طي صفحة الماضي من تقدم طوال السنوات العشر الماضية.
منذ منتصف التسعينات، دشن المغرب مسلسل كشف ماضيه في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بدأ المسلسل بطيئا لكنه مع تولي الملك محمد السادس الحكم في صيف 1999 تسارع وقطع خطوات مهمة، فطلب من الضحايا الحديث العلني وتم تعويضهم وعائلاتهم عن ما لحقهم من اضطهاد وفتحت السجون السرية أمام منظمات حقوق الإنسان وكشف عن مصير عشرات المخطوفين ومجهولي المصير كما كشف عن مقابر جماعية لضحايا مواجهات أو ضحايا اعتقال. لكن المسلسل سار محاذيا لملف المهدي بن بركة دون الاقتراب منه ودون معرفة الحكمة من تلك المحاذاة.
موقف الملك الراحل الحسن الثاني والمغرب
الملك الراحل الحسن الثاني قال أن من اغتال بن بركة هو من تآمر عليه وحاول اغتياله في إشارة إلى الجنرال محمد اوفقير والجنرال أحمد الدليمي. وحسب مصادر رسمية مغربية فإن الملك محمد السادس أبلغ المعنيين أنه لا يعرف شيئا عن ملف بن بركة وأن والده الراحل لم يطلعه على أي شيء وأنه يسمح بالذهاب بعيدا في البحث عن الحقيقة، ورغم ذلك لازالت القضية معلقة.
هناك أوساط حقوقية مغربية تستبعد سوء النية لدى سلطات مغرب محمد السادس في التعاون في ملف المهدي بن بركة وتعيد عدم التعاون إلى الإرباك وعدم التجربة من جهة والى اعتماد الشفوي في تدبير المخابرات والأجهزة الأمنية خلال عقد الستينات وبالتالي عدم توفر الوثائق المطلوبة، فإن أوساطا أخرى تبتعد في مقاربتها عن النية سوئها أو حسنها، وتشير إلى أن قضايا مشابهة ظهرت في طريق مسلسل الحقيقة عن سنوات الانتهاكات الجسيمة وتم تجاوزها عبر التعاون بين الأجهزة والأشخاص المعنيين شهودا أو مشاركين، ويشيرون إلى أن الكشف عن تفاصيل اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري لم يستغرق أربعين يوما في حين مضى على اغتيال بن بركة أكثر من أربعين عاما.
أدلى أحمد البخاري عميل المخابرات المغربية الراحل بما أدلى به، من تفاصيل حول اختطاف واغتيال بن بركة تقدم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بشكوى أمام القضاء المغربي للتحقيق مع البخاري في ما قاله حول زعيمه خاصة وأن البخاري تطرق إلى أماكن شهدت الإعداد والتنفيذ وأسماء شاركت في كل المراحل ومنها من هو لا زال على قيد الحياة. وطلبت عائلة بن بركة في فرنسا من قاضي التحقيق بالقضية الاستماع رسميا للبخاري، لكن السلطات المغربية قالت أن ملف شكوى الاتحاد الاشتراكي قد فقد وفي الوقت نفسه منعت البخاري من السفر وسحبت جواز سفره بعد رفع قضية ضده بتهمة شيك بدون رصيد. إلى أن لقي ربه.
ذكرى اختفاء بن بركة و مباشرة التحقيق
كانت الذكرى الأربعين لاختطاف بن بركة، هي من حركت الملف من جديد، وطلب القضاء الفرنسي رسميا من القضاء المغربي الموافقة على الإنابة القضائية، وتسهيل مهمة قاضي التحقيق الفرنسي باتريك مارييل بالاستماع إلى معنيين وردت أسماءهم في التحقيقات، ووافق المغرب على الطلب الفرنسي لكنه ولأكثر من مرة طلب تأجيل الإنابة، وصل مارييل إلى الدار البيضاء بناء على اتفاق مسبق مع القاضي المغربي جمال سرحان القاضي بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء، لكنه عاد إلى باريس خالي الوفاض مفجرا أزمة بين وزارتي العدل المغربية والفرنسية.
أوساط القاضي الفرنسي مارييل قالت أن القاضي المغربي اعتذر عن تأمين اتصال مع من تقرر الاستماع إليهم لعدم الاستدلال على عناوينهم ومن بين هؤلاء الجنرال عبد الحق القادري المدير السابق للمخابرات الخارجية ومفتش القوات المسلحة المغربية الذي كان ملحقا عسكريا بالسفارة المغربية بباريس حين وقوع جريمة الاختطاف والاغتيال وأيضا الجنرال حسني بن سليمان قائد الدرك الملكي الذي كان مديرا لديوان مدير المخابرات المغربية في حينه.
والمصادر الرسمية المغربية قالت إن القاضي الفرنسي باتريك رامييل دخل المغرب بشكل غير رسمي وتقصد إخفاء هويته حيث سجل في بطاقة دخول مطار محمد الخامس مهنة مستثمر فلاحي بدل قاضي وسجل أيضا عنوانا غير صحيح لإقامته في فرنسا أو في الرباط.