من عام 2007 اهتزت السلطات المغربية على واقعة كشفت إحدى عوراتها التي لا تنفك التقارير المحلية والدولية تشير إليها مرارا وتقدمها على أنها أحد عوائق نمو البلد.
يتعلق الأمر بظاهرة الرشوة التي تغلغلت في مفاصل الدولة، ويكاد لا يخلو من تداعياتها أي مرفق من المرافق العامة والقطاعات الخاصة.
شاب مجهول الهوية من بلدة تارجيست الريفية شمالي المغرب، قام بتسجيل سلسلة من الفيديوهات ترصد تسلم أفراد من الدرك الملكي (جهاز أمني لا عسكري) لرشاوى من مستعملي الطريق وعمد إلى رفعها على موقع التواصل الاجتماعي يوتيوب، وكانت هذه الفيديوهات تحمل توقيع "قناص تارجيست".
كان النضال الرقمي بالمغرب في بدايته آنذاك، وسرعان ما اتسع نطاق الظاهرة التي استرعت انتباه وسائل الإعلام المحلية والدولية، فيما السلطات المغربية أصيبت بـ"السعار" بعدما باءت محاولاتها في كشف اللثام عن هوية القناص بالفشل.
قناص تارجيست.. كابوس المرتشين
كان على الباحثين عن إجابة لسؤال "قناص تارجيست من يكون؟" انتظار حوالي سبع سنوات حتى تحذف علامة الاستفهام المذيلة للتساؤل، في شباط/ فبراير 2013 اختار "فاضح الرشوة والعدو الأول لجهاز الأمن المغربي" الكشف طواعية عن هويته، اسمه الحقيقي منير أكزناي من مدينة تارجيست، تحدث عن دوافع القنص بالكاميرا وعن مبررات البقاء في الظل لسنوات، أفاض الحديث أيضا عن المضايقات التي تعرض لها بسبب مساهمته في فضح الممارسات المتعلقة بالفساد والارتشاء التي جعلت المغرب يحتل المرتبة الـ91 على مستوى التصنيف العالمي، وفق التقرير الأخير لمنظمة الشفافية الدولية "ترانسبرانسي" .
يكشف منير كزناي في حوار مع موقع قناة "الحرة" كيف أدى الثمن غاليا من وقته وماله وحريته وحرية أفراد عائلته"، ويبوح بأنه كان "في كل لحظة مهددا بالسجن من خلال تلفيق تهمة واهية على اعتبار أن القضاء في المغرب يعتد بمحاضر الشرطة القضائية":
يقول "قناص تارجيست" إن "من يتجرأ على مثل هذا الفعل سيؤدي الثمن في غياب تفعيل صريح لقوانين حماية المبلغ عن الرشوة، فالدولة لا تعدم الوسائل غير الأخلاقية للانتقام"، ويضيف بأنه "رغم محاولة الالتزام بالأخلاق وكشف الظاهرة من دون الاقتراب من الأشخاص والأسماء سعيا لإثارة الانتباه، فإن المواجهة تكون شرسة من خلال إقحام من يتجرأ على فضح عمليات الارتشاء في معركة غير متكافئة" و" رد فعل الأشخاص موضوع الفيديو يتماهى مع رد فعل الدولة وأجهزتها كالقضاء والأمن والدرك":
قناص لكل مدينة
وبعد "حادثة تارجيست" أصبح لكل بلدة ومدينة مغربية تقريبا قناصها، يرصد بالصوت والصورة عمليات رشاوى أبطالها عناصر الدرك الملكي والأمن الوطني والقوات المساعدة، جاء ذلك عقب تنامي حضور شبكات التواصل الاجتماعي في البلد، وبعد أن أثبت سلوك منير أكزناي فعاليته، على الأقل "استطاع تحريك المياه الراكدة" وأرغم الدولة على متابعة عناصر الدرك الذين أظهرتهم فيديوهات يوتيوب متلبسين بجرم الارتشاء.
من قناص سيدي إفني وأكادير بجنوب المغرب إلى قناص بولمان وفاس (وسط)، تتواصل حكاية النضال الرقمي من أجل زعزعة استقرار المرتشين داخل الأوساط الأمنية، وقد اختار هؤلاء السير على خطى "قناص تارجيست"، لقد دخلوا المعركة بسلاح الكاميرا ونقلوها إلى ساحة يوتيوب، وسر قوتهم كما هو الحال بالنسبة لمنير أكزناي في بقائهم بعيدا عن الأضواء قريبا من الظل، لقد مكنني ذلك من العمل بحرية والاشتغال بكل سلاسة وأريحية":
وهنا بعض من أشرطة جرى رفعها على يوتيوب تصور جانبا من عمليات تلقي رشاوى من طرف عناصر الدرك في بعض الطرق المغربية:
فيديو لمناضل رقمي يدعى " قناص بولمان ينشر أشرطة فيديو لأفراد الدرك متلبسون بتلقي رشاوى:
وهذا أحد أشرطة الفيديو الخاصة بـ"قناص تارجيست":
صيد الكاميرا.. ظاهرة صحية
يشدد رئيس الشبكة المغربية لحماية المال العام محمد المسكاوي على أن لـ"وسائل التواصل الاجتماعي دور كبير في المساعدة والدفع بالمناضلين في مجال محاربة الفساد والرشوة لتطوير الأداء وللوقوف على حالات الارتشاء"، منوها بأسلوب القنص بالكاميرا وكيف سمح "بإحراج المسؤولين الرسميين وإجبارهم على اتخاذ تدابير جزائية لردع الظاهرة ":
ويكشف المسكاوي في حوار مع موقع قناة "الحرة" كيف أن الشبكة التي يرأسها قامت بوضع أرقام خبراء قانونيين لتتبع الملفات مع هؤلاء الشباب، وأيضا يتم رفع أشرطة الفيديو على الموقع الإلكتروني للمنظمة من أجل مزيد من الفضح الإعلامي".
وحذر رئيس الشبكة المغربية لحماية المال العام من التضييق على هذه "التجارب المواطنة"، ونهج أساليب انتقامية غير مقبولة مثل تلفيق تهم جنائية كالمخدرات:
ولا يتوانى "قناص تارجيست" من جانبه في دعم أسلوب الفضح الإعلامي للمتورطين في الارتشاء، واصفا الأمر بظاهرة صحية تستحق التشجيع انتصارا للأخلاق ولقيم النزاهة.
ولا يخفي منير أكزناي تخوفه من الأذى الذي قد يلحق ممارسي هذا النوع من النضال الرقمي ومحاولاتهم الكشف عن ظاهرة تمس المواطن وصورة البلد، خصوصا في ظل غياب الترسانة القانونية:
متابعات قضائية
رغم الأذى النفسي الذي لحق "قناص تارجيست" خصوصا بعدما صدع بهويته، إلا أن السلطات المغربية لم تحرك ضده أي نوع من المتابعات المادية المتعلقة بفعل تصوير ونشر فيديوهات تظهر تورط عناصر في الدرك في جريمة الارتشاء، وفي المقابل ظل أكزناي يتردد مرارا على مقار الشرطة والدرك والنيابة العامة نتيجة استدعاءات متصلة بقضايا أخرى مثل اتهامه بالوقوف خلف احتجاجات اجتماعية شهدتها مدينته للضغط من أجل تحقيق مطالب اجتماعية.
وفي حادث مشابه، وجهت النيابة العامة لمدينة فاس (وسط البلاد) تهم الابتزاز والتهديد لشابين على خلفية تصويرهما دركيين متلبسين بالارتشاء.
ويعلق محمد المسكاوي على هذه الأساليب المتبناة ضد من يحاولون محارية الرشوة عبر مواقع التواصل الاجتماعي بأن الأمر غير أخلاقي ويذكر بسنوات مضت كان فيها تلفيق التهم أقرب من حبل الوريد.
على الجانب الآخر، تتحرك الدولة أيضا ضد موظفيها الذين رصدتهم الكاميرا متلبسين بفعل الارتشاء عبر فتح تحقيقات وإنزال عقوبات تصل إلى السجن لسنوات والفصل من العمل، غير أن هذا التحرك يجري بخجل وبعيدا عن أعين وسائل الاعلام، مبررة ذلك بكون الجهاز سيادي وقطاع في غاية الحساسية.
أرقام مخيفة
يأتي تنامي ظاهرة "قناصي المرتشين" في المغرب بعد أن دقت منظمات المجتمع المدني ناقوس الخطر، وقالت آخر التقارير والدراسات إن الرشوة في المملكة أصبحت مؤسساتية ومنظمة لا سيما في مجالات الشرطة والدرك والقوات المساعدة والجمارك.
وقد كشفت بعض هذه التقارير أن نسبة 60 بالمئة من المواطنين قالوا إنهم كانوا ملزمين بتقديم رشاوى لقضاء أغراضهم الإدارية، وأيضا ذهبت هذه التقارير إلى أن الرشوة تحولت إلى جزء مكمل للراتب وانتشارها داخل أجهزة الأمن أملته قناعة مضمونها أن رواتب عناصر الدرك والأمن والقوات المساعدة والجمارك لا تتماشى مع المهام التي تؤديها، كما أنه هناك بعض العناصر تضطر لطلب الرشوة وتسلمها بعد أن تتلقى معلومات من رؤسائها بضرورة تقديم مبلغ مالي معين بشكل دوري.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire