نوارة نجم ووالدها
أبى عاش واقفا على قدميه.. وذهب واقفا عليهما
حتى الآن أسمع صوت أبى وهو يغنى ولا أفهم معنى أن تعيش الدنيا بدون غنائه
أول من أمس تم تسليم أكبر جائزة عالمية للإنتاج الإبداعى للشاعر أحمد فؤاد نجم
أول من أمس، تم تسليم جائزة الأمير كلاوس، وهى أكبر جائزة عالمية للإنتاج الإبداعى، لوالدى الشاعر أحمد فؤاد نجم، الذى كان من المفترض أن يتسلم الجائزة بنفسه فى احتفال تحضره الأسرة الملكية الهولندية، إلا أن الله قد قضى أمرًا آخر، والحمد لله على كل قضائه. لا أعلم إن كان الإعلام المصرى قد اهتم باحتفال كهذا أم تجاهله، لأننى لا أتابع أى وسائل اتصال فى الفترة الحالية، ولا أشعر بالقابلية للتواصل مع العالم، ولا أذكر من كلمات البشر سوى بيت لبدر شاكر السياب: «اغلق الباب فدنيا لست فيها، ليس تستأهل من عينى نظرة». إلا أن إدارة الجائزة طلبت منى أن أكتب كلمة موجهة لوالدى، ليتم قراءتها فى الاحتفال الذى ستحضره الأستاذة منى أنيس، لتتسلم الجائزة نيابة عن والدى. والحقيقة أن الأستاذة منى أنيس، التى بذلت جهدًا غير مسبوق فى ترجمة أشعار والدى إلى اللغة الإنجليزية، وإعداد كتيب يلخص تاريخه النضالى، ترددت فى حضور الحفل، لعدم تقبلها النفسى تسلم الجائزة نيابةً عن والدى فى غيابه، لولا إلحاحى أنا ووالدتى الكاتبة صافى ناز كاظم عليها، حيث أكدنا عليها أن هذا هو واجبها تجاه والدى، الذى أعطى مصر حياته وأمنه وراحته، وربح فى مقابل ذلك حب الفقراء والمهمشين وشباب مصر غير المشروط، كما أحبهم هو حبًا غير مشروط، ولم يربح سوى الحب، وكفى بالحب جائزة. ومن واقع واجبى تجاه والدى، وجدت أننى يجب أن أخرج عن عزلتى مؤقتًا للتنويه عن جائزة عظيمة، حصل عليها والدى من دولة لم يخدمها ولم يناضل من أجلها، تقديرًا لدوره النضالى فى سبيل بلد لم تكرمه دولتها وكرمه شعبها.
التالى هو الكلمة التى أرسلتها وترجمتها الأستاذة منى أنيس ليتم قراءتها فى احتفال تسليم الجائزة لأبى:
لا أعلم من أين أبدأ، لكننى أعلم تمامًا أن ما أواجهه الآن صعب التصديق بالنسبة لى.
أبى، شاعر الشعب أحمد فؤاد نجم، هو بالنسبة لملايين فى الوطن العربى، وبالنسبة لى فى المقام الأول، رمز للحياة، والمقاومة، والرفض، والمثابرة، ومقابلة متاعب الحياة بالسخرية والصبر الذى لا تصحبه شكوى، ولا يشوبه تململ، بل ينتزع الضحكة من الألم والسجن والتعذيب والظلم. أبى، هذا النحيل جدًّا، كان يقض مضاجع الطغاة، وكأن نحوله جعل منه شوكة حادة يصعب تقليمها. أبى، هذا الشاب الأبدى، الطفل الأبدى، الأمل الأبدى... أبى أنا يموت؟ لا يجوز على أبى الموت كما يجوز على بقية الأحياء، هكذا كنت أعتقد.
كنت أستعد دومًا للموت، فى يقظتى، وقبل منامى، كنت دومًا أشعر بقربه منى، وأتعامل معه بوصفه الحقيقة الوحيدة، لكننى فشلت تمامًا فى خلق أى رابط ما بين الموت وأبى. حتى هذه اللحظة، أنتظره ليدخل من ذاك الباب، ويسبنا ضاحكًا وهو يتعجب من حزننا، ويسخر من دموعنا، ويقول إنه جاء ليتسلم الجائزة بنفسه، ثم يترك هذا الحفل المهيب، وهذا الجمع الأنيق، ليعود ويجلس مع الفقراء والصعاليك الذين قضى حياته معهم، وكان لا يستمتع سوى بصحبتهم... حتى الآن، أشعر أن والدى أعد لنا مقلبًا، وأن الأمر لا يعدو كونه علم بأن احتفالًا مهيبًا رسميًّا قد أعد له، فقرر الهروب من هذا الجو الخانق بالنسبة له إلى فوق، وأنه سيعود بعد أن ينتهى كل شىء وهو يضحك ضحكة طفولية، ويقول إنه تمكن من خداعنا جميعًا لأنه فلاح مصرى.
حتى الآن أسمع صوت أبى وهو يغنى، ولا أفهم معنى أن تعيش الدنيا بدون غنائه.
قال لى أبى إنه حين كان جنينًا فى رحم أمه، كان وضعه مقلوبًا، لذلك، فقد جذبته المولده من قدميه بدلا من أن تجذبه من رأسه كما هو المعتاد، فنزل إلى الدنيا على قدميه، الغريب، أن أبى حين فارق هذه الدنيا، كان واقفًا على قدميه... جاء إلى الدنيا على قدميه، وعاش وهو واقف عليها، ولم يتحمل الجلوس ولو للحظة واحدة، فذهب وهو ما زال واقفًا عليها.
لن أقول الوداع يا أبى... فصوتك معى دائمًا.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire